كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لأضربن اليوم عن أبي صخر

وفيه نقل الحركة في الوقف، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله:
وزعم ابن قيس أن سيحفدا ** نساءهم خلته وأنشدا

إن يقبلوا اليوم فمالي عله ** هذا سلاح كامل وأله

وذو غرارين سريع السله ** وشهد المأزق فيه حطما

رمزبب من قومه فانهزما ** وجاء فاستغلق بابها البتول

فاستفهمته أينما كنت تقول ** فقال والفزع زعفر دمه

إنك لو شهدت يوم الخندمه ** إذ فر صفوان وفر عكرمه

وبو يزيد قائم كالمؤتمه ** واستقبلتنا بالسيوف المسلمه

لهم نهيت خلفنا وهمهمه ** يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ** لم تنطقي باللوم أدنى كلمه

وهذا الرجز صريح في وقوع القتال والقتل يوم فتح مكة.
ومصداقه في الصحيح كما تقدم.
ومنها: أيضًا؛ أن أم هانئ، بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلًا، فأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»، وفي لفظ عنها: لما كان يوم فتح مكة، أجرت رجلين من أحمائي، فأدخلتهما بيتًا؛ وأغلقت عليهما بابًا، فجاء ابن أمّي عليَّ، فتفلت عليهما بالسيف فذكرت حديث الأمان وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» وذلك ضحى ببطن مكة بعد الفتح. وقصتها ثابتة في الصحيح.
فإجارتها له، وإرادة علي رضي الله عنه قتله، وإمضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم إجارتها: صريح في أنها فتحت عنوة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خطل، وجاريتين.
ولو كانت فتحت صلحًا، لم يؤمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح.
وأمره صلى الله عليه وسلم بقتل من ذكر: ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي السنن بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان يوم فتح مكة، قال: «أمنوا الناس إلا امرأتين وأربعة نفر؛ اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» إلى غير ذلك من الأدلة.
فهذه أدلة واضحة على أن مكة- حرسها الله- فتحت عنوة.
وكونها فتحت عنوة: يقدح فيما ذهب إليه الشافعي من وجوب قسم الأرض المغنومة عنوة.
فالذي يتفق عليه جميع الأدلة، ولا يكون بينها أي تعارض: هو ما قدمنا من القول بالتخيير بين قسم الأرض، وإبقائها للمسلمين، مع ما قدمنا من الحجيج، والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، فاعلم أن العلماء اختلفوا في رباع مكة:- هل يجوز تملكها، وبيعها، وإيجارها؟- على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز شيء من ذلك، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، وإسحاق. وغيرهم.
وكرهه مالك- رحمه الله-.
وأجاز جميع ذلك الشافعي، وأبو يوسف.
وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجماعة من الصحابة ومن بعدهم.
وتوسط الإمام أحمد، فقال: تملك، وتورث، ولا تؤجر، ولا تباع، على إحدى الروايتين، جمعًا بين الأدلة، والرواية الثانية كمذهب الشافعي.
وهذه المسألة: تناظر فيها الإمام الشافعي، وإسحاق بن راهويه في مسجد الخيف- والإمام أحمد بن حنبل حاضر- فأسكت الشافعي إسحاق بالأدلة، بعد أن قال له: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بفرك أذنيه، أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال طاوس، والحسن، وإبراهيم، وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة؟- في كلام طويل-.
ونحن نذكر إن شاء الله أدلة الجميع، وما يقتضي الدليل رجحانه منها.
فحجة الشافعي- رحمه الله- ومن وافقه بأمور.
الأول: حديث أسامة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سأله. أين تنزل غدًا؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» وفي بعض الروايات: «من منزل»، وفي بعضها: «منزلًا». أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب الحج في باب توريث دور مكة، وشرائها إلخ وفي كتاب المغازي في غزوة الفتح في رمضان في باب أين ركز النَّبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي كتاب الجهاد في باب «إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون فهي لهم» وأخرجه مسلم في كتاب الحج في باب النزول بمكة للحاج وتوريث دورها. بثلاث روايات هي مثل روايات البخاري.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه تلك الرباع.
ولو كان بيعها، وتملكها لا يصح لما أقره النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى أضاف للمهاجرين من مكة ديارهم، وذلك يدل على أنها ملكهم في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8].
قال النووي في (شرح المهذب): فإن قيل: قد تكون الإضافة لليد والسكنى، لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33].
فالجواب: أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولذلك لو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى واليد، لم يقبل.
ونظير الآية الكريمة: ما احتج به أيضًا. من الإضافة في قوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» الحديث.
وقد قدمنا أنه في (صحيح مسلم).
الثالث: الأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره: أن نافع بن الحارث، اشترى من صفوان بن أمية، دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأربعمائة. وفي رواية بأربعة آلاف، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة.
وروى الزبير بن بكار والبيهقي: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير: يا أبا خالد بعت مأثرة قريش وكريمتها، فقال: هيهات ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام، فقال: اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى يعني الدراهم التي باعها بها.
وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصيًا:
واتخذ الندوة لا يخترع ** في غيرها أمر ولا تدرع

جارية أو بعذر الغلام ** إلا بأمره بها يرام

وباعها بعد حكيم بن حزام ** وأنبوه وتصدق الهمام

سيد ناديه بكل الثمن ** إذ العلى بالدين لا بالدمن

الرابع: أنها فتحت صلحًا، فبقيت على ملك أهلها، وقد قدمنا ضعف هذا الوجه.
الخامس: القياس، لأن أرض مكة أرض حية ليست موقوفة، فيجوز بيعها قياسًا على غيرها من الأرض.
واحتج من قال: بأن رباع مكة لا تملك ولا تباع. بأدلة:
منها قوله تعالى: {والمسجد الحرام الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العاكف فِيهِ والباد} [الحج: 25] قالوا: والمراد بالمسجد: جميع الحرم كله لكثرة إطلاقه عليه في النصوص، كقوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] الآية، وقوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} [التوبة: 7] الآية، وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] مع أن المنحر الأكبر من الحرم منى.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] قالوا: والمحرم لا يجوز بيعه.
ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها».
ومنها: ما رواه أبو حنيفة، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها».
ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتًا أو بناء يظللك من الشمس؟ قال: «لا. إنما هو مناخ من سبق إليه». أخرجه أبو داود.
ومنها: ما رواه البيهقي، وابن ماجه، عن عثمان بن أب يسليمان، عن علقمة بن نضلة الكناني، قال: كانت بيوت مكة تدعى السوائب، لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن.
ومنها: ما روى عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «منى مناخ لمن سبق».
قال النووي في (شرح المهذب) في الجنائز، في باب الدفن في هذا الحديث، رواه أبو محمد الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، بأسانيد جيدة من رواية عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: هو حديث حسن.
وذكر في البيوع، في الكلام على بيع دور مكة، وغيرها من أرض الحرم: أن هذا الحديث صحيح.
ومنها: ما رواه عبد الرزاق بن مجاهد عن ابن جريج، قال: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب، كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره، سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال. أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرًا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، فقال: ذلك لك إذن.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر بن الخطاب، قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابًا ليوزل البادي حيث يشاء. اه، قاله ابن كثير: إلى غير ذلك من الأدلة.
قال مقيده- عفا الله عنه-: أقوى الأقوال دليلًا فيما يظهر قول الشافعي ومن وافقه، لحديث أسامة بن زيد المتفق عليه، كما قدمنا، وللأدلة التي قدمنا غيره، ولأن جميع أهل مكة بقيت لهم ديارهم بعد الفتح يفعلون بها ما شاءوا من بيع، وإجارة، وغير ذلك.
وأجاب أهل هذا القوم الصحيح عن أدلة المخالفين. فأجابوا عن قوله: {سَوَاءً العاكف فِيهِ والباد} [الحج: 25] الآية، وعن قوله تعالى: {هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] بأن المراد: حرم صيدها، وشجرها، وخلاها، والقتال فيها، كما بينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، ولم يذكر في شيء منها مع كثرتها النهي عن بيع دورها. وعن حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه: بأنه ضعيف، قال النووي في شرح المهذب: هو ضعيف باتفاق المحدثين، واتفقوا على تضعيف إسماعيل، وأبيه إبراهيم. اهـ.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه: بأنه ضعيف، قال النووي في شرح المهذب: هو ضعيف باتفاق المحدثين، واتفقوا على تضعيف إسماعيل، وأبيه إبراهيم. اهـ.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي، واختلف عليه فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا ببعض معناه، وعن حديث عائشة رضي الله عنها. بأنه محمول على الموات من الحرم.
قال النووي: وهو ظاهر الحديث.
وعن حديث أبي حنيفة: بأنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: تضعيف إسناده بابن أبي زياد المذكور فيه.
والثاني: أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمر وقالوا: رفعه وهم قاله: الدارقطني، وأبو عبد الرحمن السلمي، والبيهقي.
وعن حديث عثمان بن أبي سليمان بجوابين:
أحدهما: أنه منقطع، كما قاله البيهقي.
الثاني: ما قال البيهقي أيضًا، وجماعة من الشافعية، وغيرهم: أن المراد في الحديث: الإخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعًا، وجودًا.